رحلة في بلاد الشام

بيروت  _  السويداء  _  حلب

عام 1946 م

بيروت - بعقلين الشوف - جزين - قلعة الشقيف - مرجعيون

   في الثالث عشر من أيلول، وقُبيل انتصاف القرن، ولمّا تنصرم أربعة أعوام على بدء الاستقلال اللبناني، الذي ساعدت على إنجازه الدول الكبرى، وفي طليعتها "إنكلترا" و "أمريكا" و "الاتحاد السوفياتي"، التي أرادت اقتلاع "فرنسا" من شرقيّ البحر المتوسط، البحر الشاميّ، بدأتُ - مع صديقٍ لي، عائدٍ من بلاد الاغتراب، هو بمثابة أخي الذي لم تلده أميّ، "يوسف سليمان عساف" - القيام برحلةٍ في الديار الشاميَّة، التي باتت تضمّ اليوم، بتخطيط المستعمرين وتآمرهم، "سوريا" و "لبنان" و "فلسطين" و "الأردن"، من دون أن ننسى "سنجق الإسكندرون" الذي ضمّته "تركيا" إليها بالاحتيال والقوّة وتواطؤ الدولة المنتدبة "فرنسا" في العام 1937م.

   في بكرة صباحِ اليومِ المذكور، عرَّجنا على جبال "الشوف" التي عُرفت يومًا باسم "جبل الدروز" قبل أن انتزعته "فرنسا" من "لبنان" وألحقته بالجنوب السوريّ؛ إذ أطلقته على جبل "حوران" في العام 1920م، وجعلت منه دويلة "جبل الدروز" وذلك في أيّام انتدابها على سوريا ولبنان، من قبل جمعيّة الأمم التي كانت تتحكّم بمقدّراتها وشؤونها وشؤوننا دولتان، هما: "إنكلترا" و"فرنسا".

   كانت بلدة "بعقلين" الشوفيَّة، أوّل مقام للأمير "فخر الدين المعنيّ" الكبير، مقدّمة زياراتنا، فزرنا دارة آل "حمادي"، التي استقبلنا فيها شيخ العقل الدرزيّ الشيخ "حسين حمادي"، بوجهٍ بشوش وعمّةٍ ناصعة البياض عريضة، ولحية تُكسب سيماه هيبةً ووقارًا؛ حدّثنا الشيخ عن جدوده وعن وقائع الطائفة وكوائنها، ولم يبخل بالحديث عن "الشهابيين" الذين أكَّد درزيّتهم التي ينكرها قسم من المؤرخين، مع الاعتراف بأنّهم كانوا يتستَّرون بالإسلام السنّيّ، تحاشيًا لغضب الدولة السنّيّة، وحفاظًا على مراكزهم وإمارتهم.

   وبعد هذا التزوّد ببعض المعلومات التاريخيّة، اجتزنا قرًى شوفيّةً أخرى، مثل "السمقانيّة" و "الجدَيْدة"، مركز شيخ العقل الثاني من آل "طليع"؛ "فالمختارة"، التي تقبع في قصرها السيدة "نظيرة جنبلاط"، والدة "كمال جنبلاط"، المشتهرة في هذا القرن كاشتهار الست "نايفة" الجمبلاطيّة، أخت "سعيد جمبلاط"، والست "حبوس الأرسلانيّة"، في القرن التاسع عشر المنصرم، "فعماطور" و "باتر" آخر قرية درزيّة في الشوف، ومنها واصلنا الجري إلى بلدة "جزين"، ذاتِ الشلّال، والمعروفة بصناعة السكاكين الجزّينيَّة؛ وجزين مركز قضاء، معظم سكّانه نصارى، ومعظم أراضيه يملكها دروز، في طليعتهم العائلة الجمبلاطيّة، وفي أيّام المتصرّفيَّة كان يمثّلهم في مجلس إدارة "جبل لبنان"، عضو درزيّ من آل جمبلاط.

   هبطنا من "جزّين" جارين في طريق منحدرة، حتّى مدينة "صيدا"، عاصمة محافظة الجنوب، التي منها عدنا إلى التصعيد حتّى بلدة "النبطيّة"، الشيعيَّة السكّان، والمشتهرة بأسواقها الأسبوعيّة، "فأرنون"، حيث قلعة "الشقيف" المطلّة على وادي الليطانيّ، والمشرفة على قسم من بلاد "بَسَارة والجليل الفلسطينيَّة"، ولها مناظر فاتنة تغري بالمكوث فيها؛ إنّما هذا الإغراء لم يستهونا، فغادرناها، وسرنا هبوطًا، حتّى جسر "الخردلي"  القاطع نهر"الليطاني" الغزير بمياهه، النابع من شرقي سهل البقاع، والصابّ في محلّة "القاسمية" الواقعة إلى الشمالي من مدينة "صور" التاريخيَّة.

   لم نتوقّف هنيهةً عند الجسر، والمياه تحته تنساب منحدرة، وفيّة لأمّها البحر الذي منه صدرت وإليه عادت، حتّى أخذنا أيضًا في الصعود نحو "دير ميماس" الغنيّة بغابات الزيتون (شجر النور)، ومن ثمّ واصلنا المسير حتّى جديدة "مرجعيون"، حيث استقبلنا رفاقٌ قُدامى لنا، في مدرسة "الليسيه" الفرنسيّة العلمانيّة،  "شوقي حدّاد" والمحامي "حليم حدّاد" و "جمال أبو شهلا" و "فايز مسعد"، ولم يسمحوا لنا بالمبيت في فندقٍ، على قلّة الفنادق في هذه البلدة الجنوبيَّة المضياف، فكنّا ضيفين مكرَّمَين عندهم، والقِرى خلّة متأصّلة من خلالِهم، وخلْنا أنفسنا كأنّنا في بيوتنا، وكأنّهم يقولون لنا ما قاله شاعر قديم مضياف:

يـا ضيفنَـا لـو زرتَنـا لرأيتَنـا    نـحن الضــيوفُ وأنــتَ ربُّ المنــزلِ

   وسرورهم بنا لم يوازه سوى سرورنا بهم، وهم رفاق مقاعد مدرسة لم نتعلّم فيها سوى المحبّة والإلفة والتسامح، بدون النظر إلى الدّين، الدّين الذي بنظرهم ونظرنا، ينبغي أن يقرّب بني البشر بعضهم إلى البعض الآخر، لا أن ينفّر الواحد من الآخر.

مرجعيون - حاصبيا - راشيا - بانياس - إزرع - السويداء

   في الرابع عشر من أيلول، والطقس معتدل جميل، ودَّعنا الرفاق الكرام وتوجّهنا صوب "حاصبيا" القابعة في حضيض جبل الشيخ، جبل "حرمون" الجبل "المقدس"، والمكسوّه قننه بالرداء الثلجيّ، المضارع بياضُه بياض عمامة الشيخ، الشيخ الفاضل، الذي قيل إنّ هذا الجبل الشاهق تسمّى باسمه، وقد كان من عبَّاد ونسَّاك أهل التوحيد، نابذي الشرك بالله، وهداة التقوى الأوائل.

   في تيك البلدة التاريخيَّة، التي كان منها الأمير "حيدر الشهابي" ابن بنت الأمير "أحمد المعني" زرنا بعض آل "قيس"، الذين منهم الشيخ "نجيب قيس" قاضي المذهب الدرزي هناك، حيث تناولنا القهوة المرّة وأبنا إلى الطريق العامّ، طريق "وادي التيم" هذا الوادي المعروف عند أهله، بعض أهله، باسم "الوادي الأنور" وقد أنْبتَ رجالًا كانوا مثالًا يُقتدى بالخلق الرفيع والتقوى الصافية والنورانيّة السامية، وعند البعض الآخر باسم "الوادي الأخيب"، إذ كان فيه بعض السكينيَّة المارقين، أعداء الموحّدين الهداة إلى نور الحقّ والعقل، وما هي إلّا ساعة جريٍ في ذاك الوادي الجامع للنقيضين، الخير والشر، النور والظلمة، حتّى كنّا في "راشيا" المدينة التاريخيّة أيضًا، التي منها الأمير "بشير الشهابيّ الأوّل"، ابن أخت الأمير "أحمد المعني"، والتي استضافت قلعتها رجال الاستقلال: "بشارة الخوري"، "رياض الصلح"، "عبد الحميد كرامي" وسواهم، في 11 تشرين الأول من العام 1943، عام الاستقلال، عندما نفاهم إليها قادة الانتداب الفرنسيّ، لأنّهم رفضوا الانصياع لمشيئتهم وتسلّطهم، وأرادوا الحرّية والاستقلال والتخلّص من نير الانتداب البغيض. والقلعة اشتهرت كذلك في الثورة الدرزيّة السوريّة، في العام 1925، عندما هاجم حاميتها الفرنسيّة، أبطالٌ أشاوسٌ من الثوّار الدروز، وفتكوا بالعديد من رجالها المدافعين عنها، واحتلّوها عنوة؛ وفي البلدة زرنا أناسًا من آل "مالك" و "عون"، وتناولنا الغداء في منزل "فايز خطّار صعب" وكان خروفًا ذبحوه وعملوا منه منسفًا، على الطريقة الحورانيَّة الدرزيَّة؛ وما انتهينا من الغداء، بعد أن أخذ الجوع منا مأخذًا، حتّى كان وقت العصر، فقفلنا عائدين إلى جهة "حاصبيا" و "مرجعيون"، مارّين بمنبع نهر "الحاصباني" الذي لا يصبّ في البحر المتوسّط بل يصبّ في بحيرة الحولة المغذّية نهر"الأردن" الشهير، ومن هذا المنبع اتّجهنا إلى الجنوب حتّى حاذينا بلدة "المطلّة" التي تحوّلت إلى بلدة يهوديّة، وتلّة النحاس التي منها ولجنا الحدود السوريّة، حتّى وصلنا إلى "بانياس" حيث النبع المعروف بهذا الإسم، والصّاب في بحيرة الحولة والمغذي نهر "الأردن" أيضًا؛ ومن "بانياس" صعدنا في طريق وعرة توصل إلى القنيطرة، تطلّ على سهل "الحولة" و"الجليل الأعلى"؛ ومن كانت هذه المنطقة، الداكنة التربة بركانيَّتها بيده، سَهُلَ عليه الاستيلاء على ما تحتها من الأرضين، والدفاع عمّا وراءَها من سهول تفصلها عن غوطة "دمشق".

    في القنيطرة، كانت الشمس قد شارفت على الغروب، والشفق القرمزيّ يكحّل الأفق الغربيّ وجبال  "فلسطين" المطلّة على "عكا" و "حيفا"...

   اجتزنا سهل "الجيزور" البركانيّ اللّون، والشمس قد تلاشت، وتوارت خلف الآفاق البعيدة، وعند الهزيع الأوّل من الليل كنّا في "السويداء" عاصمة الجبل، جبل "حوران"، الذي كان يُعرف قبل عام 1920 بجبل الدروز.

السويداء  -   القريّة  -   قنوات  -  شهبا  -  دمشق 

   في الصباح الباكر، بعد أن نمنا ليلة شبه هادئة، كدّرها بعض لسعات البعوض المتسرّب من خلال النوافذ، تناولنا حليبًا طازجًا طيّب الطعم دسمًا، وهبطنا من علِّية النوم غير المجهّزة بالأسرَّة، برفقة الأخ الصديق جميل أبو عسلي المضيف، إلى مضافة الأسرة العسليَّة؛ وهي قاعة كبيرة مستطيلة الشكل، يؤمّها الضيوف، ويأوي إليها بعض الغرباء في وسطها "نقرة"، يصطفّ حواليها أباريق تلتهب بالجمر، فوق نارها تصنع القهوة العدنيّة أو السيلانيّة، إذ تُغلى في دلّةٍ أي إبريق نُحاسيٍّ ضخم، يُصبُّ مغليّه في سائر الأباريق حتّى يصير صافيًا صفاء عين الديك، واحتسينا القهوة العربيّة، الطيّبة النكهة المعلّلة، مع الزوّار الآخرين والقاصدين، وعند خروجنا، وبقرب مجازة المضافة وبُرطاشها، شربنا الماء من سردالةٍ (خابية) فخّارية بواسطة طاسة يشرب بها كلّ عطشان، وهي مربوطةٌ بسلسلةٍ إلى عنق الخابية ذات الماء القراح المبرَّد بفعل رشح الفخّار، ومن هناك سرنا عل أقدامنا في شوارع واسعة كثيرة الغبار، غير معبّدة، مرورًا بمطخٍ (المطخ بركة يتجمّع فيها مياه الشتاء وتشرب منها المواشي والناس، قبل جرّ المياه إلى البيوت) على حافّاته أباعرُ وأبقارٌ ترتوي، ونساءٌ محتشمات الملبس، يملأن الجرار ويحملنها على رؤوسهنَّ، يأتين بها إلى بيوتهنَّ المتواضعة، وبأناسٍ ممتطين زوامِل، من إبلٍ وحمرٍ وبغالٍ، مسلّحين ببنادقَ وسيوفٍ، كأنّهم جندٌ مسوقون إلى الحرب، وهم بالحقيقة ذاهبون إلى حقولهم أو آيبون منها؛ وما أبطأنا، حتى عرّجنا على دارة "عبد الغفار الأطرش". أحد زعماء الجبل وصديق الفرنسيين قبل مغادرتهم البلاد، وهو شخص ذو هيئةٍ مُهيبة، وقامةٍ سامقةٍ وعِمَّةٍ ناصعة البياض تكلّل هامته، ووجهه يطفح بالبشر والانشراح، وصوت جهوريّ جَلْجَلَ في سماء مضافته الّتي استقبلنا فيها خير استقبال، ورحّب بنا خير ترحيب، كعادة الكرام في الجبل الأشم. ومن دارته انتقلنا إلى منزل  "أبي غالب توفيق الأطرش" و"غالب" رفيق دراسة قديم لنا في"الليسيه بيروت الفرنسيّة العلمانيّة"، كالرفيق "جميل أبو عسلي" الّذي صار قاضيًا بعد تخرّجه من جامعة دمشق. ومنه يمّمنا مركز قيادة الدرك حيث زرنا قائده "زيد الأطرش"، أخا "سلطان الأطرش" الّذي أوقفنا على حال "الجبل الدرزي" بعد انكفاء الحكم الفرنسيّ عنه، وبرّر عادة حمل السلاح لدى الدروز وميلهم إلى التزيّن به في وقت السلم، كما يستقوُون ويعتزّون به في الهيجاء، مردّدا ما يردّدونه:

  بارودتي محبوبتي         يحلو لي لبسُ جنادِها!!

  وعند اقتراب الظهيرة، وبعد زيارةٍ أخرى وجيزة للمقدّم "حمد الأطرش" آمر المنطقة الجنوبيّة (المقرن القبلي) وكتيبة الفرسان، توجّهنا إلى قرية "القريّة"، عرين "سلطان الأطرش" قائد الثورة السوريّة، وهي تقع في المقرن القبلي أيضًا، حيث استُقبلنا بالترحاب، في دارة البطل الذي ثار يومًا على الانتداب الفرنسيّ، وحارب مع رجاله الأشاوس المغاوير، جيش "ميشو وغاملان"، واضطرّ بعد العراك الطويل والكرّ والفرّ، إلى الفرار مع مئات المقاتلين، واللّجوء إلى الصحراء، إلى "الأزرق" فوادي "السرحان"، وفرّ معه أمير السيف والقلم "عادل أرسلان" الذي رافقه رهطٌ من ثوّار جبل لبنان، بعد أن غُلب على أمرهم ولم يستطيعوا الثبات في وجه الدبّابات والطيّارات الحربيّة الفرنسيّة، فآثروا الهرب على الاستسلام والذلّ للغريب المستعمر المستقوي بآلاته المدمّرة التي قال فيها الأمير "عادل أرسلان":

رمونا بديناميت حتّــــــــى  تقلقلـــت        جبـــال على حوران كانت رواسيَ

ودبُّـــــوا بأبراج الحديـــــــد كأنّـــها        سلاحف لا يمــشـين إلّا تهادِيـــــــا

فما أرهقوا القلب الذي كان صامدًا       ولا أوهنوا العزم الذي كـان ماضيًا

   وعاد السلطان، عام 1936، على إثر المعاهدة الموقّعة بين "سوريا" و "فرنسا"، واستُقبل في "دمشق" عند عودته استقبال السلاطين العظام، واستقرَّ في قريته، مستريحًا من إرهاق هجرة دامت حوالى عشر سنوات، استقبلنا فيها كما يستقبل ضيوفه كلّ كبير، بتواضع ومحبّةٍ وعطفٍ، مُستعلمًا عمّن رافقوه من فرسان "لبنان" وعاشوا معه في أيّام المحنة والقهر والشدائد، حيث الحرمان وحتّى الجوع، وتحمّل الحّر الشديد والهموم التي تنوء تحتها الجبال؛ وبين الّذين سأل عنهم الصحافيّ والكاتب "عجاج نويهض" الذي كان يده اليمنى في النكبة، يرسل له المال المخصّص لأطفال الصحراء، وكلّ حاجة ثانية من "مصر" و "فلسطين" وسواهما.  

   وكان "عجاج" آنذاك يُقيم في مدينة "القدس"، فأشبعنا فضوله في الاطّلاع على شؤون من آسوه في منفاه القاسي من اللبنانيين، وكان يرافقنا في هذه الزيارة التي نحسبها بمثابة حجٍّ إلى بيت سيد المجاهدين في سبيل "سوريا" والعروبة، الملازمان في الجيش "شبلي الجرمقاني" و"غالب سيف"؛ وما أن أتمَّ الباشا واجب الضّيافة، من تقديم القهوة المرّة والعنب والبطيخ البلديّين، حتّى أُبنا إلى "السويداء"، ومنها عرّجنا على بلدتين أثريّتين تقعان في المقرن الشماليّ، أي تقعان إلى الجهة الشماليّة من عاصمة الجبل هما "قنوات" و"شهباء" وفيهما أبنية وقصور رومانيّة مهدّمة في معظمها، منها مدرَّج من الحجر الأصفر لازال في حالة جيّدة في بلدة "شهباء" التي اشتهرت بأنْ تحدّر منها "فيليب العربي" الإمبراطور الرومانيّ، وعُدنا عند الأصيل إلى منطلقنا في "السويداء" التي غادرناها في صباح السادس عشر من أيلول.  

     هبطنا من السويداء باتجاه الغرب، وما هي إلّا بضع عشرة دقيقة حتّى بلغنا مكانًا اسمه "المزرعة"، وقد أصبح مكانًا تاريخيًّا بالنسبة إلى تاريخ الثورة السوريّة، وقُبَيل تاريخ ثورة الدروز على الفرنسيين، وفي العام 1925 حصلت معركة شرسة بين الثائرين المعروفيّين والجيش الفرنسيّ المجهّز بالعتاد الثقيل والمتطوّر، كانت الغلبة فيه للأوليين ضدّ قوات العدوّ الّتي كان يقودها جنرال فرنسي "الجنرال ميشو"؛ والدروز الذين هاجموها كانوا أقلّ عددًا وعُددًا إذ كان سلاحهم السيوف والمعدّلات (البنادق الألمانيّة الصنع المتبقّية من السلاح الّذي استُخدم في الحرب العالميّة الأولى) وقد باغتوا العدوّ المعسكِر قرب نبع هذا المكان في الصباح المبكر، وأعملوا في جنده السيوف القواطع، يضربها الأبطال المغاوير- فرسانهم ومشاتهم - في الرقاب، فتتطاير الرؤوس ذات اليمين وذات اليسار، والرّماح الردينيّة تخترق الصدور والظهور، ولم ينجُ من العسكر سوى طويلي العمر، الّذين استطاعوا الهرب مع قائدهم الذي نجا من القتل أو الأسر بأعجوبة، وهذا الذي أسطّره رواه لنا في "المزرعة"، شيخٌ عجوز ممن حضروا المعركة، وجال جولة السباع في المعمعة، وكان وجهه يطفح بالسرور وهو يحدّثنا، وناظراه يبرقان، وشعر شاربيه ولحيته يتراقص كأنّه تعبير عن نشوة النصر الذي ردّدت صداه أجواء " باريس " الّتي غضبت لاندحار جيش من جيوشها التي انتصرت على أقوى جيش أوروبيّ، جيش المانيا الذي انكسر عام 1918.

   ولكن ما أن انتهى شيخنا من الإخبار عن هذه المعركة، الّتي يفتخر بها أبطال دروز "الجبل"، جبل حوران، حتّى تجهّم وجهه معقّبًا قائلًا: يا أولادي انتصر أبطالنا الشجعان في هذه المعركة، ورافقنا فيها الحظ المقرون بالفخار، إلّا أنّ معركة أخرى كان جدُّنا فيها عاثرًا، هي معركة "المسيفرة". والمسيفرة تلّة يمكن رؤيتها من هنا، وأشار إليها بيده، وهي تقع على حدود الجبل الملاصق "للجيزور" أي سهل حوران الكثير الخصب، مكان تحاصر فيها الجند الفرنسي استعدادًا للوثوب ثانيةً على"الجبل" هاجمها ثوّارنا الأشاوس معتمدين على المفاجأة في آخر اللّيل، إلّا أنّ العدو، وقد وصله علم جاسوس عميل عن الهجوم المباغت، سلَّط الأضواء على المهاجمين وهم على وشك الإطباق عليه، وأمطرهم بوابل نيرانه ومدافعه، فعادوا على أعقابهم وقد سقط منهم عشرات القتلى؛ وكانت هذه المعركة المشؤومة بداية سيئة تمكّن بعدها الجيش الفرنسيّ المعزّز بقوّات كبيرة العدد، كثيرة العِدد، بقيادة جنرال آخر كبير هو الجنرال "غاملان" من اختراق الجبل، حصن الأبطال وأهل الكرامة، والسيطرة عليه وإجبار"سلطان" قائد الثورة، ورهط كبير من المقاتلين على الانكفاء وترك "الجبل" مع عائلاتهم وأطفالهم، واللّجوء إلى "الصحراء". وواصلنا مسيرتنا مجتازين سهل "حوران" سهل "الجيزور"، وسكّانه من المسلمين السنّيين، حتّى بلغنا غوطة "دمشق"، أي السهل الملاصق للمدينة العاصمة، وهو سهل غنيّ بالأشجار المثمرة والخضار والحبوب التي تُغذّي سكّان المنطقة جمعاء.

   أوّل ما لفت نظرنا حيّ "الميدان" الّذي دمّرته المدفعيّة الفرنسيّة، قبل انسحاب جيوش الدولة المنتدبة، واستقلال "سوريا" ومعها استقلال "لبنان"، في أثناء الحرب العالميّة الثانية (1939 – 1945).

   من حيّ "الميدان" عرّجنا على الجامع الأموي الذي تبرّكنا بزيارته، وهو مقدَّس، غنيّ بالآثار الفنّية التي تعود العصر الأمويّ العربيّ المزدهر الحضاري، ومن ثَمَّ زرنا قبر "صلاح الدين"، بطل الإسلام والعروبة وقاهر الصليبيين في معركة "حطّين". في آواخر القرن الثاني عشر، وقد وطئت أرضه المباركة قدما صليبيّ جديد آخر هو الجنرال "غورو" الذي زاره على إثر استيلائه على "دمشق" في العام 1920، واضطرار "الملك فيصل" إلى الهروب من عاصمة "سوريا" إلى عاصمة "بغداد"، وقال: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"! بعد أن وقف أمام ضريحه رافعًا قبّعته العسكريّة احترامًا للموت والبطولة.

   وتناولنا الغداء المتأخّر في بيت كريم من كرام "دمشق" المضيافة، بيت السيد "نسيب سيف" وفي آخر هزيع اللّيل الأوّل، كنّا ضيفين في مدينة "الفيحاء" "طرابلس الشام". 

طرابلس  -  برج عكار  -  طرطوس  -  اللاذقية  -  حلب  -  معرّة النعمان  -  حماه  -  حمص  -  قلعة الحصن  -  منطقة الأرز  -  بيروت.

   في صباح السابع عشر من أيلول، تركنا الفيحاء متَّجهين شرقًا لنصل بعد ساعة جري إلى مصيف جميل يقع في منطقة "الضنّية"، هو "سير" البلدة الصغيرة الجميلة، ذات المياه الفيّاضة والحدائق الغنّاء والنسمات الناعمة الطريئة، حيث أمضينا نهارنا متنزّهين بين الحدائق الغنّاء، تارةً جالسين عند منبع النهر الغزير، يطربنا خرير مياهه المتدفّقة من تحت الصخور، وطورًا مستريحين في فندق "أوتيل بلاس" الّذي بتنا فيه ليلةً هادئة ساكنة بعيدةً عن ضجيج المدينة وغبارها وحرّها، بعد عشاء دسم دعانا إليه في منزله الدكتور "عادل المرعبي" صديق رفيقي "يوسف عسّاف".

   في صباح الثامن عشر من شهر الخريف الأوّل، هبطنا إلى طرابلس، ومنها واصلنا المسار على الطريق الساحليّة، هدفنا "برج عكار" برفقة الدكتور "عادل" و"عبد الكريم المرعبي"، مرورًا ب "عرقة" التي تدلّ آثارها على قِدمها، و"حلبا" مركز قضاء "عكار"، ومنها عرّجنا صعودًا في الجرد "العكّاري"، مارّين في عدد من القرى الريفيّة، مثل بلدة "رحبة" و"تكريت"، والأخيرة، أخبرنا الرفيقان عن طبائع أهلها المشتهرين بالمراس الصعب والعصبيّة والشراسة أحيانًا، حتّى أنّ خلافاتهم كانت لا تُحلُّ بالحوار والتفاهم ولا بالشتائم، بل بالعصيّ والمجارف والفؤوس والرفوش، المستعملة في معالجة الحقول. ومن "تكريت" عرّجنا على بلدةٍ أخرى هي "بَيْنو" المتناقضة أشدّ التناقض مع جارتها؛ إذ رأيناها كأنّها ثريّا في سماء خافتة النجوم، وكأنّها بلدة من بلدات "المتن" المجاورة "بيروت"، فلا ضجيج ولا تقاتل، بل متنزّهون ومتنزّهات على أرصفةٍ شبيهةٍ بأرصفة المدن الراقية، بملابس تسرُّ الناظر، ومعظم أهلها من آل "عطيّة" توصّلوا إلى هذه المرتبة من الرقيّ بفضل الهجرة ونيل العلم والشهادات الجامعيّة؛ وقبيل المغيب، وعندما أخذت حمرة الشفق تكحّل جفن أفق "عكار" الحرجيّة الجبليّة، كنّا في بلدة البرج حيث حللنا ضيفين في دارة زعيم وكبير"آل المرعبي" السيد "معين المرعبي"، فرقدنا وكرّمنا كأحسن ما تكرّم الضيوف: عشاء تشكّل من ألبان النعاج والماعز والشهد الشهيّ الشافي، ونوم هنيء هادئ لم تزعجه بعوضة ولا لفحة حرّ، بل نسيم ينساب إلينا من جبل "القمّوعة" القريب منّا، والغنيّ بأحراش الشربين والشوح والبلّوط.

طرطوس: وما أطلّت علينا غزالة الثامن عشر من الشهر حتى ودّعنا الشيخ المضيف "معينًا"، والد أصدقاء رفيقي، وقفلنا عائدين إلى "الساحل العكّاري" حيث الجون الذي منه انطلقنا إلى "طرطوس" السوريّة أخت "طرابلس"، من دون توقّف، إذ لم يوقفنا حاجز ولم يضايقنا مفتّش، فسوريا ولبنان بلدان توأمان وأخوان شقيقان. وفي طرطوس المدينة والمرفأ الصغير المطلّ على جزيرة "أرواد"، التي كان المنتدب الفرنسي ينفي إليها بعض الرجالات الوطنيين، زرنا رفيق المدرسة والشباب الدكتور"زكي مهنا" وأخاه القاضي "محمود مهنا"، حيث احتسينا عنده فنجان قهوة، ومنها توجّهنا إلى الشمال.

اللاذقيّة: إلى "بانياس" ذات النهر الغزير، مارّين في سهول "جبلة"، حتّى بلغنا "اللاذقيّة"، أكبر مرفأ لسوريا، ويكاد يكون المرفأ الوحيد بعد أن اغتصبوا منها "حيفا" و"يافا" و"عكا" في جنوبها، و"إنطاكيا" و"اسكندرون" في شمالها. في اللاذقية تناولنا على شاطئها طعام الغداء من السمك الطّازج الشهي، بعد زيارتين قمنا بهما للنائب العلويّ "أحمد علي كامل" وللدكتور "علي سليمان" أخ الشاعر الملقب ببدويّ الجبل. وبعيد الهاجرة توجّهنا شرقًا، فاجتزنا الجبل المعروف قديمًا باسم جبل "النصيريّة" الذي أطلق عليه في زمن الانتداب الفرنسيّ إسم "جبل العلويين"، كما أطلقوا على "جبل حوران" اسم "جبل الدروز"، ومررنا في المنطقة المعروفة باسم "الجوبي" التي اشتهر فيها في عهد الانتداب "سليمان" المرشد الملقّب بالرّب لأنّه إدّعى الربوبيّة في قبيلته المسمّاة قبيلة "المواخسة"، المتأخّرة علميًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، يسودها الجهل المطبق، حتّى أنّ أناسها آمنوا بأنّ زعيمهم يجترح عجائب كعجائب "موسى" و"عيسى" وسائر الأنبياء، ولم يكن سوى عميل للمندوب السامي الفرنسيّ وللدولة المنتدبة التي سلّحته قبل انسحاب جيوشها من "سوريا"، وانتفض على حكومة "دمشق" المركزيّة، فشنّت عليه حملة عسكريّة هاجمته في منطقته الوعرة المسالك، البركانيّة التربة، وأخضعته بعد معارك عنيفة، وألقي القبض عليه وسيقَ إلى "دمشق" حيث نال جزاءه الذي كان إعدامه الحياة.

   وبعد اجتياز هذا الجبل المكسوّ بالشجر الحرجيّ كالسنديان والشربين والسرو والذي تقبع فيه بلدة جميلة اسمها "صْلْنفيَة"، مصيف كبار الضباط والموظّفين في زمن الانتداب وبعده، وحتّى اليوم، قطعنا جسر الشغور الذي تنساب تحته مياه نهر "العاصي" النابعة معظم مياهه من جبال "لبنان"، ومنه واصلنا المسير حتّى مدينة "إدلب" الغني سهلها بشجر الزيتون والتين؛ وقبل هبوط الليل بلغنا مدينة "حلب" حيث كان مبيتنا في فندق "بارون".

حلب: في الثامن عشر من أيلول كنّا زائرين في "حلب" الشهباء، عاصمة بلاد الشام الشماليّة، عاصمة آل حمدان، الحمدانيين، المشتهر فيهم "سيف الدولة الحمدانيّ"، بطل العروبة في عصره، والمدافع عن الثغور ضدّ البيزنطيين، أي ضدّ الروم، المحاولين الاستيلاء على البلاد التي خسروها في الغزوات العربيّة الإسلاميّة في مطلع الفتوح، والمشتهر فيها "المتنبي" شاعر شعراء العرب الأفذاذ، مالىء الدنيا، وشاغل الناس؛ وكان أوّل ما قمنا به، بعد تناول طعام الصبحيّة، في محلّ حلوى "المستَّت"، زيارة مستشفى "الرازي" حيث استفقدنا صديقنا "هايل الجرمقاتي"، الضابط في الجيش السوريّ، الّذي جرح جروحًا بليغة، كادت تودي بحياته في معركة "الجوبي"، التي خاضها ببطولةٍ منقطعة النظير، ضدّ "سليمان" المرشد الملقّب "بالرب"، الّذي ورد ذكره سابقًا، والّذي غرّر به الفرنسيون، حتّى ينتفض على الحكم الوطنيّ العربيّ السوريّ، مطالبًا بالانفصال عن الوطن الأم "سوريا"، وبعد أن عدنا هذا المصاب المتخن بالجراح، والكسور التي أقعدته عن التحرّك لوقت طويل، عرّجنا على قلعة "حلب" فتسلّقنا مئذنتها الذاهبة عاليًا في السماء حيث أطلّت علينا أحياء مدينة "سيف الدولة"، وهي دائريّة الشكل ووسطها حصن عظيم لا زال جزء منه سليم البنيان، لم تأتِ عليه عوادي الزمان وحدثانه، وأهمّ ما لفت نظرنا فيه القاعة المسمّاة قاعة الملك، التي تقرب مساحتها المربّعة من سبعمئة متر، والقلعة هذه شبيهة بقلعة "الحصن"، المعروفة عند الفرنجة بقلعة "الفرسان"، الواقعة في الجبال "العلويّة" ما بين "حمص" و"طرطوس".

   وفي أصيل النهار اجتمعنا برفاق قدامى من آل "المدرّس" وآل "الجابري"، الوطنيين الّذين قاوموا الانتداب الفرنسي، وشاركوا الزعيم الثائر "ابراهيم هنانو" في ثورته التي سبقت ثورة "سلطان الأطرش" وكانت مقدّمة لإجلاء الفرنسيين إجلاءً كاملًا في هذه السنة.

حماه: قبيل ارتفاع الغزالة، في التاسع عشر من أيلول، غادرنا مدينة "المتنبّي" و"أبي فراس الحمدانيّ"، وما انقضى على جرينا ساعة وبعض الساعة، حتّى بلغنا "معرّة النعمان" وهي بلدة تقبع في منطقة شبه صحراويّة تجاور "الحَمَادَ" أي الصحراء السوريّة أو "بادية الشام"، وإليه نُسب الشاعر الفيلسوف "أبو العلاء المعرّي"، ذو العقل النيّر والتفكير العالميّ، والروح الإنسانيّة؛ وفيها جماعة من ساكنيها لا يزالون يتكلّمون لهجة آراميَّة، والآراميَة أخت العربيّة وشقيقة السريانيّة، التي لا زال سكّان بعض قرى جوار دمشق يتكلّمون بها. في هذه المدينة شبه البدويّة، والواسعة الشوارع والجادّات، يكثر تجار السمن الذي يأتي به رعاة النعاج، ذات اللبن الطيّب الدسم، الآتي من خلاصة الأعشاب والزهور التي ترعاها الماشية، والتي تكتسي وتتزيّن بها المراعي والحقول الرحبة في فصل الربيع. وفيها زرنا قبر أبي العلاء المعرّي التنوخيّ، الأعمى البصر والصافي البصيرة، كصفاء سماء البيداء، والذي عاش في العصر الفاطميّ الذي انتشرت فيه دعوة التوحيد، في جوار المعرّة (معرّة الإخوان مثلًا) والجبل الأعلى المجاور "حلب" و"وادي التيم" و"جبل لبنان" و"الجليل"، وشيوخ الدين الموحّدون لا يستبعدون اعتناقه لما اعتنقوه هم، وما اعتنقوه ليس سوى دين الخفاء، ابتداءً من "أمنحوتب" مصر القديمة و"أرسطو" اليونان و"ابراهيم الخليل" و"موسى" و"محمد" و"سلمان"؛ ومثواه هذا، عليه لوحة حجريّة حُفر فيها اسمه، وتكريمًا لذكراه بنت الحكومة السوريّة حوله مبنىً بات مزارًا لائقًا ومركزًا ثقافيًّا صغيرًا. وبعد هنيهة خشوع وقنوتٍ أمام المثوى المقدّس الموحي بالتفكير العميق، غادرنا المدينة الصغيرة إلى "حماه"، مدينة "أبي الفدا" والنواعير، والسمن الحموي، الوارد من نعاج أهل "الحماد"، استرحنا على ضفّة من ضفاف نهر "العاصي" النابع من جبالنا، جبال "لبنان" ذات العمائم البيضاء شتاءً في أحد المقاهي، محتسين قهوة عربيّة صافية، مصغيين إلى أنغام النواعير المنسكبة من عُليّها، المحرّكة شلّالات الماء، ونواحها، متذكرين بيتين من الشعر ومكرّرين لهما وقد ورد على لسان أحد الفاتحين، إذ قال متغنّيًا:

والنواعيرُ في وادي حمــاةُ إذا بكتْ      تُهيّـــجُ منّـي القلبَ والمدمعَ العاصـي

وإنّـــــــــي على نفسي لأجدرُ بالبكــا     إذا كانت الأخشاب تبكي على العاصي

حمص: وبعيد الظهر وبعد جولةٍ سريعةٍ عابرةٍ في بعض أسواق المدينة التاريخيّة القديمة يمَّمنا مدينة "حمص"، فبلغناها عند الأصيل. استرحنا قليلًا في أحد فنادقها حيث بتنا ليلتنا، ومن ثَمَّ عرجنا على جامع "خالد بن الوليد"، أحد أبطال العروبة والإسلام، وهو أعظم جامع في هذه "المدينة المناضلة"، لا بل من بين أكبر جوامع المدن الإسلاميّة قاطبةً، بكبره وضخامته وعلوّ ركائزه وجمال هندسته وحسن قُبّته الكرويّة، ولألاءِ ثريّاته البلّوريّة المذهّبة والمفضّضة، فطفنا في أرجائه الرحبة، وتوقفنا هنيهة أمام قبري "خالد" و"عبد الله بن عمر"، للتبرُّك والاعتبار بمحامد رجلين مثاليين في الجهاد والتقوى، يفتخر بهما العرب والمسلمون في المشارق والمغارب، ويكبرهما أهالي "حمص" الّذين اقتبسوا من نورهما روح النضال الذي تميّزوا به ضدّ المنتدب الفرنسيّ، وتسلّحوا به لإجلائه عن بلادهم، وقد اشتهر منهم عائلات وطنيّة مثل "الأتاسي" و"الحسيني" وسواهما من الأسر الحمصيَّة، وقد عمل موظَّفو الانتداب الكثير لإضعاف المقاومة الحمصيّة، وكلّ مقاومة سورية أخرى، بخلق التناقضات بين السكان، إذ حاولوا زرع بذور الفتنة الطائفية بينهم، لاجئين إلى تحريض النصارى على المسلمين، والمسلمين على النصارى ليتقاتلوا فيما بينهم، وقد روى لنا صديق حسينيّ في عشيّة ليلتنا، أنّ رجال المخابرات الفرنسيّة ألبسوا رجلًا مسلمًا بدلة راهب نصرانيّ وألصقوا بذقنه لحية اصطناعيّة؛ أخذ هذا الراهب المزيّف يجول في الشوارع، محاولًا خلق مشاكل، وتصدى أحد السوقة، عندما سمعه يوجّه شتائم لشيخ مسلم متعمّم، وأخذ يضربه بجمع يديه، وتجمّع الناس، فمنهم من ساعد الضارب ومنهم من تحشّد للراهب، مدافعًا عنه، وكاد التضارب يتحوّل إلى فتنة لولا وجود شخص عاقل شكَّ في أمر رجل الدين المضروب المهان هذا، وتأكد من أنّه غريب عن رجال الدين الحمصيين، فاقترب منه وحملق في وجهه، وأمسك بلحيته فانسلخت للحال من وجنتيه، وأخذ الرعاع يكيلون له الصفعات واللكمات الموجعة، وتحرّوا حقيقته وكشفوا زيفه، وقد اعترف بأنّه مسلم عميل لعملاء الانتداب، مُشترى بمال، فَسِيقَ إلى مكانٍ نال فيه ما يستحقّ من جزاء.

الأرز: في ضحى العشرين من شهر أيلول كانت تجري بنا السيّارة على طريق طرابلس - بيروت، مرورًا "بتلّ كلخ" "فالعبّوديّة" وبلغنا عاصمة الشمال، باكرًا، قبل ارتفاع الغزالة، ولم نبطىء فيها حتّى أخذنا في التصعيد، مبتعدين عن الطريق الساحليّ، وما هي إلّا بضع عشرة دقيقة حتّى كنّا في بلدة "زغرتا" موطن الرجل الوطنيّ المحبوب "حميد فرنجيّة"، ومدفن أحد رجالات لبنان في القرن المنصرم "يوسف كرم"، الّذي شاهدنا جثمانه المحنّط ولكن ليس كتحنيط "توت عنخ آمون" طبعًا. ومن مثواه الأبديّ توجّهنا إلى بلدة إهدن، مصيف الزغرتاويين ومقصد الزوّار والسائحين، ذات المياه الباردة المتفجّرة من تحت الصخور والمتسرّبة من ثلج فم الميزاب الذائب، ومن إهدن الشاهقة المناطحة سحب سماء بلاد الزاوية، عرّجنا على بلدة بشرّي المشتهرة، ليس بقربها من الأرز المسمّى عند الموارنة أرز الرب، بل لأنّها مسقط رأس رجل كبير رفع إسم "لبنان" وبلاد "الشام"، لا بل إسم بلاد العرب قاطبةً هو "جبران خليل جبران"، إنّ هذه البلدة بالنسبة لنا، مزار ومحجّة، كمزار ومحجّة "فولتير" و "روسو" عند الفرنسيين، في "فرناي" المجاورة "جنيف" وبحيرة "ليمان".

   زرنا مدفن "جبران" القائم في كنيسة بُنيت لتكريمه، وقد أخذنا العجب من هذا، لأنّ الرجل النابغة لم يكُ يمتُّ بصلةٍ لأهل الدين، بل كان علمانيًّا صرفًا، وعدّه الإكليروس كافرًا، وكادوا أن يرفضوا استقبال جثمانه، عند بلوغه مرفأ بيروت بسبب هذا الكفر، أَوَ لَيْسَ هو القائل:

 الناسُ في الأرض لولا الخوفُ ما عبدوا     ربًّـــــا ولولا الثــوابُ المرتجــى كفروا

 كأنّــما الديـــــــــنُ ضــربٌ من متاجــــرهم      إنْ واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا

   ووقفنا دقيقة صمت خاشعين قرب جثّته في كنيسة دير "مار سركيس"، وكدنا أن نقرأ الفاتحة تمجيدًا لروحه، ومن مزاره المقدّس توجّهنا إلى متحفه، حيث مكتبه وكتبه وبعض ومخطوطه ولوحاته الفنّيّة العديدة وأثاثه ورِيَشُهُ وسائر أدواته التي كان يستعملها لخَلْقِ تُحَفِهِ، والّتي أجمل ما فيها لوحة تمثّل الأمومة ولوحاتٌ أخرى تجسّد العواطف الإنسانيّة المتنوّعة أو ترمز إلى الحبّ الجامح والحزن والألم؛ وما فرغنا من التجوال في المتحف – المزار -، الّذي يؤمّه العشرات بل المئات، يوميًّا من الزائرين محبّي "جبران" الفنّان، الأديب، الشاعر، الثائر على التقاليد البالية، الواقفة عثرةً في وجه التقدّم والأُلفة وصهر النفوس في بوتقة الوحدة بين جميع العرب، لبنانيين كانوا أم سوريين أم سواهم، بقطع النظر عن أديانهم، إذ إنّ الأديان عنده صالحةٌ إذا كانت لتقريب قلوب البشر، بعضها إلى البعض الآخر، وهي بالضدّ، طالحة وغير لازمة، إذا كانت لتنفير هذه القلوب وخلق البغضاء، وروح التنابذ، والتعصّب الذميم الذي لا يقرّه العقل السليم والضمير الحيّ، اللّذان كانا منطلقًا للأديان، ونبراسًا لسعادة الإنسان.

   غادرنا إلى "الأرز" صعودًا، حيث تمتّعنا بمشهد شجراته الخالدة، المتحدّية عنفوان "ضهر القضيب" و"فم الميزاب" المطلّين عليها، والمحيطين بها كإحاطة خلخال نصف دائري في ساق الطبيعة العاتية، ومن بعد غداءٍ في فندقٍ هناك، عدنا أدراجنا إلى "بشرّي" ومنها إلى "حصرون" المجاورة "للديمان" مقرّ البطريركيّة المارونيّة صيفًا، "فالحدث"، "حدث الجبّة"، وهي طبعًا غير "الحدث" المجاورة  لبعبدا مركز محافظة جبل لبنان ومركز المتصرّفيّة في الزمن العثمانيّ، "فأميون" و"بشمزّين" "الكورة"، "فشكّا" ثم "البترون" و"جبيل" التي عرّجنا عليها عند الأصيل، وشاهدنا بعض آثارها التي كادت تمحوها عوادي الدهر من فينيقيّة وعربيّة وصليبيّة ومملوكيّة، وأبنا إلى منطلقنا الأوّل "بيروت"، عاصمتنا ومفخرة لبناننا، وغير لبناننا من دنيا العروبة، لنستريح من رحلةٍ دامت أسبوعًا وسوف تبقى ذكرى حميمة لن تندرس مهما طالت الأيام وكرَّت الليالي.

                                        يوسف س. نويهض

                                    بيروت- خريف عام 1946